حدث الانفجار-الزلزال في بيروت، في الوقت الذي كان يعيش لبنان فيه أزمة معقدة، ازمه أنتجها نظام سياسي مولد للكوارث منذ ان اعتمد لحكم لبنان في العام 1920، وجاء الانفجار الكارثي نتيجة لهذا النظام انفجار عمق الأزمة ولم يكن هو سببها بل جل ما فعله الانفجار فضلا عن الكوارث البشرية والمالية والاقتصادية التي أنزلها بهذا الوطن والشعب، انه أماط اللثام جذريا عن قبح هذا النظام واظهر عدم صلاحيته للاستمرار.
بيد ان العقلاء المتبصرون لم يكونوا بحاجة إلى مثل هذه الكارثة حتى يقفوا على بشاعة هذا النظام ووهنه وعجزه عن إدارة دولة، لكن المنتفعين من النظام كانوا يتمسكون به ولا زالوا يرفضون أي تغيير او إصلاح فيه لأنهم يرونه الطريق السريع السهل والآمن لتكوين الثروات واستعباد الناس وبناء الإمبراطوريات والمحميات المالية والشعبية.
و بمراجعة بسيطة لمواقف سجلت في هذا الموضوع نجد على سبيل المثال دعوة الأمام السيد موسى الصدر في أوائل السبعينات إلى مراجعة النظام من اجل تحقيق العدالة فيه حيث قال "اعدلوا قبل ان تجدوا دولتكم في مزابل التاريخ" ، كما نجد مواقف الأحزاب الوطنية و العلمانية التي دعت إلى بناء الدولة المدنية دولة المواطن و ليس فيدرالية الطوائف .وقبل سنوات اطلق السيد حسن نصرالله دعوته إلى مؤتمر تأسيسي لمراجعة النظام و تطويره لإقامة الدولة القادرة العادلة ، و قبل اشهر اطلق المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان دعوته إلى نظام سياسي يحاكي الواقع و يحفظ الحقوق التي عجز عن حمايتها نظام الطائف و قبله صيغة ال 1943 التي سقطت .
وقبل الانفجار بأيام أطلق البطريرك الراعي دعوته لحياد لبنان، ورغم انه راجع موقفه وأعطى نظريته أكثر من تفسير، فأننا نرى ان الدعوة بحد ذاتها جاءت نوعا من الدعوة إلى مراجعة الدستور والنظام لان للحياد مقتضبات لا يؤمنها الدستور الحالي واعتمادها يفرض التعديل.
أما القنبلة التي صعقت معظم الرافضين للإصلاح او مراجعة النظام خاصة الفئات التي تتمسك بنظام الطائف، فقد كانت الدعوة التي أطلقها رئيس فرنسا في زيارته المفاجئة إلى لبنان بعد الانفجار -الكارثة حيث دعا إلى عقد سياسي جديد أي بكل بساطة نظام سياسي جديد يلبي مقتضيات الواقع ويسد الثغرات ويقطع الطريق على انفجار سياسي وفوضى تعقبه تعطل البلاد وتهدر الحقوق بعد ان تطيح بالأمن والسلامة العامة.
من خلال هذا العرض نصل لرسم صورة يكاد يكون فيها الأجماع قد تحقق حول فكرة عجز النظام السياسي اللبناني القائم حاليا عن تحقيق ما يصبو اليه الشعب اللبناني ما يفرض البحث الجدي عن نظام مناسب يتم اعتماده بالقبول و الرضى من أكثرية الشعب اللبناني ، لاعتقادنا بان الأجماع هنا صعب التحقق ، و قد يكون أجماع على المبادئ العامة و الشعارات كالقول مثلا " الدولة القوية العادلة " لكن ما ان تأتي إلى التفسير و التفصيل حتى يظهر الخلاف و التباين ، لان العدل عند البعض يكون عدلا حسابيا يمكن من إرساء المساواة بين الأفراد أي كان معتقد الفرد و يقيم دولة المواطن ، بينما مفهوم العدل عند اخرين هو عدل كمي نوعي بين الطوائف يقيم المساواة بينها أي كان حجم الواحدة منها .هذا مثل و عليه يمكن ان يقاس الكثير ....
في ظل هذه المخاوف من العجز على الاتفاق تطرح أسئلة حول المخارج الممكنة من الأزمة التي وضعت لبنان أمام مأزق وجودي، فهل يكون الحل كما هي بعض الطروحات الآن متمثلا باستقالة الحكومة؟ او بأقفال مجلس النواب؟ او بانتخابات نيابية مبكرة؟ او بوصاية دولية على لبنان تبدأ بوضع اليد على التحقيق بالانفجار ثم تتوسع لتصبح انتداء سياسي كما سنعنا في الشرع الذي استقبل ماكرون مؤخرا؟
ان الذين يروجون لهذه الأفكار يعملون عن قصد او غير قصد لاعادة إنتاج النظام والعودة إلى نظام الماسي ونراهم في ذلك منفصلين عن الواقع يقولون الشيء وعكسه، دون ان يدركوا ان طلبهم يقود إلى أحد وضعين في ظل ما هو قائم الأن أما الشلل والتعطيل الذي يقود إلى الفوضى وإكمال الانهيار ومنع قيامة لبنان الدولة او إعادة إنتاج الوضع المزرى في ظل النظام القائم دون أي نتيجة وللإيضاح أكثر نطرح الأسئلة التالية:
1) أي حكومة يمكن ان تحل مكان هذه الحكومة بعد استقالتها في ظل وجود أقلية نيابية ترفض العمل مع الأكثرية النيابية لتشكيل حكومة وحدة وطنية؟ وهل تظن الأقلية ان بإمكان الأكثرية تسليم رقبتها للأخرين ويتكرر ما حصل في العام 2005 عبر ما يدعون اليه من تشكيل حكومة محايدة، وهل هناك في لبنان من هو مؤكد الحياد المستحق لان يتولى الحكم في ظل مقولة ان " المحايد بين الحق والباطل هو نكرة نصر الباطل بعدم نصرته للحق “؟
هذه الأسئلة تقودنا إلى القول بان استقالة الحكومة لن تغير شيئا كما يعتقدون لأنها ستؤدي إلى شلل حكومي كما كان يحصل في أزمات مماثلة عبر العجز عن تشكيل حكومة، او عودة إلى حكومة مماثلة او استعادة حكومة الوحدة الوطنية الفاشلة وكلها حالات لن تكون مناسبة لتقديم الحلول ...بل ستكون الطريق الأنسب للفراغ والفوضى.
2) أما عن المجلس النيابي، فأن على دعاة الاستقالة ان يتذكروا الانتخابات الفرعية مهما كان عدد المستقيلين من النواب حتى ولو تجاوزوا الثلث من عديد المجلس فان الأخير، قادر على الانعقاد وممارسة أعماله طالما ان لديه القدرة على تامين الأكثرية المطلوبة دستوريا أي الأكثرية المطلقة في معظم الحالات ألا ما جاء فيها نص دستوري على أكثرية موصوفة تتجاوز المطلقة. فإذا جرت انتخابات مبكرة الآن وفي ظل قانون الانتخاب الحالي من يضمن ان لا يعود أعضاء المجلس بمعظمهم كما هم الآن وكما عودتنا انتخابات سابقة في ظل قانون انتخابي طائفي يشوه الديمقراطية ويمنع التمثيل الصحيح؟
3) أما عن التحقيق الدولي فان تجربة محكمة الحريري كافية لوحدها لنسف الفكرة من أساسها. إذ ان 15 عاما مضت حتى الأن لم تكن كافية للبت بالقضية وكشف الحقيقة ومن يدري إذا كنا بحاجة إلى 15 عاما أخرى او أكثر للانتهاء من المحاكمة وحسنا فعلا رئيس الجمهورية عندما اتخذ موقفه الرافض لهذا التحقيق مستندا على مقولة "العدالة المتأخرة ليست بعدالة ". والقضاء الدولي كما بات مسلم به لدى معظم رجال القانون ونحن منهم ليس ألا وسيلة سياسية بلبوس قضائي يستعملها القوي في المنظومة الدولية من جل التغطية على المجرم والانتقام من خصومه أما هو فيرفض الخضوع لهذا لقضاء كليا كما تفعل أميركا.
وفي الخلاصة ومع التأكيد على ان النظام القائم بات مرفوضا من قبل الأكثرية الشعبية لأنه لا يحقق العدالة ولا يؤمن الاستقرار ورغم تمسك الطبقة السياسية به فانه غير قابل للاستمرار، لكن الوصول إلى المبتغى لا يكون عبر طروحات منفصلة عن الواقع عقيمة في ذاتها تعيد إنتاج النظام ولذلك لا نرى بدا ولا مفرا من وضع خطة انقاد تراعي الواقع والممكن وتحدد الخسائر وتختصر الوقت، وتمنع إعادة إنتاج السلطة الفاسدة وأحياء النظام خطة نراها في:
أ. مؤتمر وطني لاعتماد نظام سياسي وعقد اجتماعي جديد يراعي حقوق المواطن وهواجس الجماعات الوجودية والحقوقية الذاتية والوطنية وتكون أمامه مهل قصيرة جدا للوصول إلى الحلول بشكل لا تتعدى الأشهر. وفي حال العجز عن تحقق الأجماع فيه فيمكن العمل بما تقبل به الأكثرية المركبة (أكثرية أعضاء المؤتمر وأكثريات الطوائف) ثم عرض النتائج عل الاستفتاء الشعبي
ب. إعادة تكوين المؤسسات الدستورية وفقا لما يتوصل اليه المؤتمر الوطني.
ت. التحقيق والمحاكمة بكارثة بيروت عبر إحالة القضية إلى المجلس العدلي دون سواه ويمكن طلب معونة فنية او تقنية من الخارج دون ان تمس بالسيادة.
ث. أجراء الإصلاحات الضرورية جدا من اجل فك الحصار عن الدولة والمواطن.